تعيش بلادنا منذ حوالي السنتين مخاضا إعلاميا عسيرا، ويتراوح التقييم للميدان الإعلامي من السيئ إلى الحزبي المتواطئ، وبما أن الإعلام ميدان شاسع ومتحول عالميا، وبما أنه يعيش تغييرات جذرية بسبب التقدم التكنولوجي، فإن مشكل الإعلام التونسي مزدوج وعلينا محاولة التفرقة بين الأسباب الموضوعية والأسباب الذاتية لفشل إصلاح الإعلام في تونس
ـ كما ذكرت آنفا، يعيش العالم (المتقدم) تحولات جذرية بسبب التكنولوجيا، ففي بداية القرن العشرين، كانت الصحف السبيل الوحيد لنشر المعلومة، وكانت تقوم بالإخبار إلى جانب التحليل، أما اليوم فيكفي أن تكون مرتبطا بالأنترنات كي تتمكن من الحصول على الخبر ثواني بعد حدوثه في أخر أصقاع العالم، ولم تتمكن الصحف اليومية من أن تجاري النسق السريع المتحول إلا من خلال خلق مواقعها الإلكترونية ومن بعد تطبيقاتها الخاصة على الهواتف الذكية واللوحات اللمسية، فعدد الصحف المطبوعة أوروبا يتناقص سنويا منذ أكثر من عقد
ـ تمكنت المجلات الشهرية وخاصة المختصة منها (سيارات، شؤون نسائية، حواسيب) من أن تحافظ على عدد مرتفع من القرّاء اللذين يجلبهم الشعور بالإنتماء إلى مجموعة من المختصين وأيضا بسبب عدم إرتفاع تكلفتها الشهرية مقارنة بالصحف اليومية، فمثلا في تونس لا يتجاوز ثمن المجلة الخمس دنانير في حين أنها تكفي بالكاد لشراء صحيفة يوميا لمدة أسبوع، لكن للأسف لا نرى في تونس عددا ضخما من المجلات وغيابا تامّا للمختصة منها، وقد يعود هذا إلى غياب حركة ترجمة كبيرة إلى اللغة العربية وتعود شريحة كبرى من مجتمعنا على قراءة العلوم أو التكنولوجيا بلغات أجنبية وخاصة الفرنسية
ـ يعيش الإعلام السمعي البصري مشاكل عديدة في الغرب، أهمها تعدد القنوات بسبب إنخفاض تكاليف التصوير والبث وإنتشار التلفزة الرقمية مقابل زمن إستعمال غير قابل للتمديد (24 ساعة يوميا) بل متناقص بسبب المنافسة من قبل بقية التكنولوجيات كالأنترنات والهواتف الذكية وحتى اللوحات الرقمية، كما أن التلفزيون كان دائما تلفزيونا حكوميا ذ
ا صبغة مرفق عمومي، فكانت القنوات الرسمية تلتزم ببث نسبة لا بأس بها من البرامج الثقافية والتعليمية، وفي تونس عشنا تجربة الخصخصة فقط منذ سبع سنوات وهو ما غير نظرتنا للإعلام السمعي البصري، فالقنوات الخاصة لا تتمتع بالأداء على التلفزيون الذي ندفعه مع فواتير الكهرباء، وتعتمد كلّيا على الإشهار وهو ما يدفعها إلى الإتجاه أكثر نحو المسلسلات والبرامج الترفيهية على حساب الثقافة والتعليم، إذ يقول باتريك لو لاي مدير قناة تي أف 1 الفرنسية أنه من دوره بيع "مساحات من العقل البشري لكوكا كولا من خلال برامجنا"، ولا تزيد المنافسة بين القنوات الخاصة والعامة سوى الطين بلة في هذا الميدان.
موضوعيا، نرى أن عديد المشاكل الإعلامية اللتي نعيشها في تونس ليست خاصة ببلدنا بل منتشرة في كل دول العالم بسبب التكنولوجيا أو العادات الإنسانية، لذا كان من المهم إبرازها لتسهيل حل بقية المشاكل الذاتية للإعلام التونسي
ذاتيا
ـ تعتبر وكالات الأنباء (عالمية كانت أو وطنية) قاطرة للإعلام، فهي الأصلح للحصول على المعلومة الدقيقة ساعة حدوثها من خلال شبكة مراسلين عالمية (أ ف پي 2700 مراسل) تمتاز بالحرفية والدقة، لكن للأسف في بلادنا، وكالة تونس إفريقيا للأنباء لا تقوم بدورها على أحسن وجه، فمثلا لا يتم تنزيل الأنباء العاجلة ليلا، ولا يمتاز صحفيوها بالسرعة في التنقل إلى مكان الخبر (لأسباب لوجيستية أو شخصية)، وما يزيد الطين بلة أن وكالات الأنباء تنشر الأخبار المقتضبة للعموم، لكنها لا تفتح مقالاتها الإ للمنخرطين، ومن بينهم الوزارات والسفارات و الجامعات وخاصة وسائل الإعلام كالتلفزات والراديو و الصحف، لكن في تونس يبقى عدد المنخرطين ضعيفا مقارنة بما تحتاجه الوكالة بل ونجد صحفا إلكترونية كبيزنيس نيوز تقوم بلقطة شاشة لمقالات الوكالة لتدمجها في مقالاتها الشخصية، فيدور المشهد الإعلامي في حلقة مفرغة، فلا الوكالة قادرة على تقديم المعلومة السليمة ولا وسائل الإعلام قادرة على التحليل بسبب إهتمامها بالحصول على المعلومة وهو ما يتناقض مع دورها الأصلي
ـ القضاء أو سيف داموقليس المسلط على رقاب الإعلاميين: هنا تتحمل حكومات الغنوشي والسبسي نسبة كبيرة من المسؤولية، ولم تحرك "الحكومة الشرعية" ساكنا في هذا المجال، بل وتجرأ لطفي زيتون على التهديد بإخراج القائمة السوداء للصحفيين وهو ما لا يمكن إعتباره إلا طلبا صريحا من الإعلاميين الدخول الى بيت الطاعة الحكومي، فعوض أن يتم تأميم كل قنوات التلفاز والراديو وحتى الصحف، فضلت الحكومات المتعاقبة التعامل مع هذا الملف بإنتهازية كبيرة، ويبقى مثال سامي الفهري الأوضح هنا، فالغريب ليس أن يقع إيداعه السجن، بل أن يكون يوم إيقافه صاحب قناة تلفزية ذات نسبة إستماع عالية بين التونسيين، فقد كان من الأفضل أن تتم محاسبته (أو حتى مصالحته، هو وبقية الإعلاميين) في الأيام الأولى من الثورة حتى لا نصل الى يوم نظطر فيه إما إلى الدفاع عن سامي الفهري شريك بلحسن الطرابلسي أو اكدفاع عن حكومة تضع في السجن من يعاديها أو من لا يلمع صورتها لدى التونسيين.
رغم مرور سنة ونصف، شخصيا أرى أن الحل يكمن في نوع من المصارحة بأخطاء الماضي من قبل الإعلاميين و بعث هيئة عليا للإعلام تهتم بمشاكل القطاع وتفض النزاعات دون اللجوء الى القضاء، كما يُطلب من من كان قريبا من السلطة أن يقوم بحلقات تكوينية إضافية وهو ما يدفعنا إلى المرور الى النقطة الثالثة والأخيرة
ـ أبناء عبد الوهاب عبد الله، كرها أو طواعية
لم يكن الصحفيون في تونس، كغيرهم من بقية شرائح المجتمع، مستعدين للثورة (يمكن أن نقارنهم بالسياسيين مثلا لنرى أنهم ليسو أكثر سوء ا من غيرهم)، وكان ما يتعلمونهم في ميدان الصحافة غير ما يُلقّن دوليا وفي العالم المتقدم، فتعود إعلاميونا على الخنوع للسلطة، على قتل روح النقد والممانعة فيهم، على إستسهال القص واللصق وعدم "الإستئناس" بما يتم العمل به في العالم الغربي، فمثلا لا نرى صحافيا تونسيا واحدا يعيد طرح نفس السؤال على رجل السياسة إذا لم رأى أن الإجابة غير كافية، إلى غيره من "الأسئلة المحرجة" من نوع "كيف ستمولون برنامجك الإنتخابي حال وصولكم للحكم"، هذا طبعا إذا كان للأحزاب التونسية برامج مرقّمة لا نوايا حسنة
لحل هذه المشكلة يجب التكثيف من الدورات التعليمية المشتركة بين أوروبا/أمريكا وتونس، إعتماد تبادل الخبرات مع الصحف العربية في البلدان اللتي تمتلك هامشا من الحرية إلى جانب دورات تكوينية في السياسة/الحقوق/الإقتصاد للصحفيين حسب إختصاصاتهم من قبل جامعيين تونسيين وهو ما سيمكن من رفع المستوى العام للإعلام في بلدنا
هكذا لخّصنا عددا من الأسباب الموضوعية والذاتية لمشاكل الإعلام في تونس، قد يتصوّر البعض أنه سبق السيف العذل، لكنني شخصيا أرى أنه من الممكن إلى هد اليوم إصلاح الإعلام في بلادنا، تكفي قليلا من الرغبة السياسية لبعث نفس جديد في ميدان الإعلام، نحن في حاجة لكل طاقات بلدنا طالما أبرزت النية على العمل بصدق من أجل وطن يبحث عن مرفأ سلام في زمن متقلب ومحفوف بالأخطار، لا يحقّ للسياسيين أن يهتمو بمصلحتهم الحزبية وبالحملة الإنتخابية القادمة على حساب مصلحة الوطن في الحصول على إعلام حر و محايد، لا يحق للصحفي القريب سابقا من السلطة أن يبحث عن صكوك الغفران لدى السلطة الجديدة كما لا يحق للصحفي العادي أن ينسى أهمية حياده بسبب إختلافه مع من هم في السلطة اليوم، مصلحة الوطن اليوم أعلى من كل شيئ، بناء الوطن اليوم سيمكننا غدا من البحث عن مصالحنا الشخصية لكن رجاءً لا تخطئوا الأولويات، ولا تخذلو وطنكم فهو في حاجة إليكم